الأصل أن النصيحة تكون باللين واللطف، لأنَّ مَن تنصحه لن يكون شرا مِن فرعون، وأنت لن تكون خيرا مِن كليم الله موسى، والله تعالى يَعلم أنَّ فرعون عدوه، ولن يستجيب لنصح موسى، وأنه سيموت كافرا، وسيكون من أهل النار، ومع هذا كله قال لموسى وهارون: [اذهبا إلى فرعون إنه طغى - فقولا له قولا ليِّنًا، لعلَّه يَتَذكَّر أو يَخشَى].
فهذا الأصل، والغرض من النصيحة هو بيان الحق، والحث عليه، وتغيير المنكر، فيُسلَك لذلك أقرب الطرق لتحقيق هذا الغَرض، وما دخل الرفقُ في شَيء إلا زانه، وقد قال ربنا سبحانه لنبيه محمد ﷺ: [فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك..].
فهذا في مقام النصح والدعوة خصوصا حيث تَوَجَّه الخطاب لمُعيَّن.
وليس معنى هذا أن لا يغضب الإنسان إذا انتهكت حرمات الله، لكن المقصود إذا أراد تغيير المنكر بالدعوة والبيان والنصح أن يَسلك لذلك الطريق المحقق للمقصود.
وليس المقصود من الرفق واللين أيضا أن تكون الدعوة كلها بالترغيب دون الترهيب، لكن المقصود أن يكون أسلوب الدعوة حسنا، ترغيبا كان أو ترهيبا، لئلا يكون سوء القول سببا للفساد في الأرض ورد الحق، وقد قال تعالى: [وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إن الشيطان ينزغ بينهم] وقال: [وقولوا للناس حسنا].
وفي مقام الدعوة وتوجيه الخطاب لمعيَّن أو غير مُعيَّن قد يحتاج الداعي إلى نوع مِن الشدة والترهيب والإغلاظ لمن يحتاج ذلك ليعلم خطورة ما هو فيه، على حسب ما يقتضيه المقام، وتتحقق به المصلحة، ويقوم به الحق الذي يحبه الله.
فهذه كلها مقامات دعوة، وأما مقام الجهاد ومدافعة الكفار والمنافقين فتكون فيه الغلظة والشدة هي الأصل، كما قال تعالى: [يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير] وهذه الغلظة قد تكون في حال القتال كما قال تعالى: [فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما منًّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها..] وقال: [فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان - ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله]، وقال: [قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين]، وقد تكون هذه الشدة والغلظة في حال الجهاد باللسان والبيان والمجادلات لدفع صائل على الدين بالشبهات والأباطيل والأكاذيب، محارب له بذلك، لا مجرد سائل طالب للحق والهدى، فإن هذا من أهل الدعوة والجدال بالتي هي أحسن، وقد قال سبحانه: [ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم..].
وفي كل الحالات في مقام الدعوة باللين والرفق، أو بنوع من الشدة حيث اقتضى المقام، وفي مقام الجهاد والجلاد لأعداء الله ورسوله بالشدة والإغلاظ عليهم ينبغي أن يصحح الإنسان قصده، ويضبط عمله، وأن لا يقصد علوا في الأرض ولا فسادا، وأن لا يكون دافعه لشيء من ذلك هو الرياء، أو الحمية والغضب لذاته هو، أو أن يرى الناس مكانه، أو ليقال إنه صاحب شجاعة في الحق، ونحو ذلك من الأغراض الدنيوية والمكاسب الشخصية، أو الانتصار للنفس وإنفاذ غضبها وتحقيق هواها وتسلطها، أو إنفاذ رغبتها في البغي والعدوان، بل يكون مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا، لا كلمة نفسه، وأن يقوم الحق والقسط على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه، على مقتضى ما أرسل به رسله عليهم الصلاة والسلام [لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط...].
والله أعلم وأحكم وألطف وأرحم، لا إله إلا هو، الملك الحق المبين.