أفضل وصف أوصف لك به نفسي"البلبلة"؛ مشايخ يقولون حلال وغيرهم حرام وناس تقول هذا خطاب ديني متخلف وناس تقول هذا خطاب متميع وكثرت المعرفات والحسابات على مختلف المواقع (انستجرام - سناب - تويتر - آسك - فيسبوك...) تذبذبت وعندي أشياء كثيرة مرات أقول تطور ومرات أقول ضعف، تابعت شيوخ يوتيوب وشدتني ثقافتهم لكني لست راضيا عن نفسي.. باختصار تلخبطت، كيف النجاة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله عَزَّ وَجَل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}.
فقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عن وقوع الافتراق والتنازع والاختلاف بين الناس، وبيّن لنا أن المرجع في خلافهم إلى كتاب الله تعالى، وأن هذا من أعظم وظائف وأغراض إنزال القرآن..
وحاكمية الوحي على خلاف الناس تكون بمعايير علمية مستمدة منه معروفة في مظانها من أصول التلقي والاستدلال، ولكني سأحدثك عن معيار واحد فقط من هذه المعايير التي نزل بها الوحي، معيار هيّن طيّع في استعماله في القياس، ونتيجته غالباً فعّالة، وهو "معيار الأثر الذاتي".
أرأيت هؤلاء الذين تذكر أنك تابعتهم فزلزلوا مكونات علمية وعملية فيك، وأحدث لك هذا اضطراباً في تقييم علاقتك بهم:
طبق على استمدادك منهم معيار "الأثر الذاتي".
▪️ باختصار شديد خصص خلوة يسيرة وألقِ على نفسك هذه الأسئلة:
- ما حالي الشخصي بعد متابعة هؤلاء والتشرب منهم؟
- هل أصبحت أكثر تعظيماً للكتاب والسنة وأكثر تلهفاً عليهما؟
- هل أصبحت أكثر توقيراً لعلوم أئمة السلف ومنارات الهدى ومن لهم في الأمة لسان صدق عام؟
- هل أصبحت أكثر حراراةً إيمانيةً واجتهاداً في الصلاة والقرآن وذكر الله تعالى ونحوها، أم بدأ يعتريني تدهور سلوكي واستثقال للطاعات، وبرود في مواسم الخيرات التي يعظم فيها العمل الصالح كرمضان وعشر ذي الحجة ونحوها؟
- هل أصبحت أكثر حباً وولاءً للعاملين للإسلام من أهل العلم والدعوة والجهاد ونحوهم بقدر عملهم له، أم أصبحت مملوء الصدر ضغينةً وغلاً وإزراءً على من سبقني بالإيمان؟
- هل أصبحت أتمتع بمدارسة مسائل الشريعة والتفقه فيها أم أصبحت أتضايق من فتحها وأُسرّ بالحديث الفكري المجرد والخوض في تقييم الناس والقدح فيهم؟
- هل أصبحت أكثر غيرة على الإسلام وحميةً للدين، أم هبّ على قلبي صقيع تجاه ظواهر العدوان على الشريعة وسُلِبْت تمعّر الوجه إذا انتهكت محارم الله، وصرت أرى الغضب لله تعالى ورسوله ﷺ لا يتناسب مع الذوق الفكري الراقي؟
ونحو هذه السؤالات..
فإذا خلوت بنفسك، ثم بدأت تلقي السؤال تلو السؤال.. وتتذكر منزلة الصدق مع الله ﷻ في الجواب: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}..
• فإن خرجت بجواب إيجابي عن رؤوس هذه الأسئلة فعض على صاحبك بالنواجذ..
• وإن خرجت بجواب سلبي عن رؤوس هذه الأسئلة، فإنك ستدرك أن هذا الشخص الذي تتابعه وتتلقى عنه خطاباً دينياً ظاهره الرقي الفكري إنما قدّم لك طبقاً مسموماً، سواءً كان هو نفسه يعلم ذلك، أم كان هو نفسه أيضاً ضحية لا يعلم..
ونفسك عليك غالية.. فكيف ترضى لها أن تغتذي بالوجبات الفاسدة؟
وهل ترى البدن يقوى على الخدمة في الطاعة وقد اغتذى بالعطب حتى غدت أيامه الكساح..
نعم، الشارع جعل الأصل استفتاء أهل الذكر: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} ، لكنه أيضاً شرع "استفتاء القلب" وهي حالة من مساءلة الذات.. فعند الدارمي:
قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : (استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك.) ويشهد لأصل معناه حديث النواس بن سمعان في صحيح مسلم.
وفقني الله وإياك للاجتهاد في سلوك الطريق الذي يقربنا منه، وكشف عن قلوبنا زخارف الخطاب وحُجُب الأفكار، وجعلنا وإياك ممن قال عنهم: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} حتى نلقى ربنا في ساعة قريبة قادمة سبقنا لها إخوان وأهلون كانت تخفق قلوبنا بينهم، ونحن إلى ما صاروا إليه صائرون.