وجوب قضاء الحائض للصوم دون قضاء الصلاة مما تواترت به السنة علما وعملا، كما أجمع على ذلك فقهاء الصحابة والتابعين، ففي مصنف عبد الرزاق ١/ ٣٣٢ عن معمر عن الزهري (هذا ما اجتمع الناس عليه وليس في كل شيء نجد الإسناد).
وكذا قاله أبو الزناد - في كتابه السنن في الفقه - كما في صحيح البخاري باب الحائض تترك الصوم والصلاة (وقال أبو الزناد : إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرا على خلاف الرأي، فما يجد المسلمون بدا من اتباعها، من ذلك أن الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة).
فهذه السنة متواترة علما وعملا - لا رواية فقط - وهي أقوى في الاحتجاج من أخبار الآحاد!
وأما من حيث الرواية فقد روى مسلم في صحيحه رقم ٣٣٥ حديث معمر عن الزهري عن معاذة سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة. فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. قالت: (كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة).
وقد رواه الترمذي رقم ١٣٠ من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن معاذة مختصرا على عدم قضاء الحائض للصلاة، وقال الترمذي (هذا حديث حسن صحيح، وقد روي عن عائشة من غير وجه أن الحائض لا تقضي الصلاة، وهو قول عامة الفقهاء لا اختلاف بينهم في أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة).
ورواه في رقم ٧٨٧ مطولا من طريق عبيدة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نطهر، (فيأمرنا بقضاء الصيام، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة).
قال الترمذي (هذا حديث حسن، وقد روي عن معاذة، عن عائشة أيضا، والعمل على هذا عند أهل العلم لا نعلم بينهم اختلافا، أن الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة).
ورواه النسائي رقم ٢٣١٨ من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن معاذة العدوية، أن امرأة سألت عائشة: أتقضي الحائض الصلاة إذا طهرت؟ قالت: (أحرورية أنت، كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نطهر فيأمرنا بقضاء الصوم، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة).
فصح الحديث عن قتادة وأبي قلابة عن معاذة عن عائشة، وعن الأسود عن عائشة، وإنما اقتصر أكثر الرواة على عدم قضاء الصلاة، لأنه مما خالف فيه الحرورية، ولم يخالفوا في الصوم، ولهذا اعتنى المحدثون بهذا اللفظ على وجه الخصوص لأنه محل الخلاف!
فثبت هذا الحكم بالسنة المتواترة علما وعملا، والسنة عن طريق الرواية الحديثية، وبالإجماع الفقهي كما نقله الزهري وأبو الزناد والشافعي والترمذي وغيرهم.
وهو أيضا مقتضى القياس الجلي، وذلك أن الصلاة عبادة يومية، لا يخلو وقت من فرضها، وكما في الصحيحين (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم الليلة)، والحكمة منها هي إقامة ذكر الله ﴿وأقم الصلاة لذكري﴾، فلا معنى لإيجاب قضاء الصلاة على الحائض، وهي أصلا تتكرر في اليوم خمس مرات لإقامة ذكر الله، وبهذا علل النبي ﷺ وجوب قضاء الصلاة لمن نسيها أو نام عنها فقال (فليصلها إذا ذكرها) فجعل لها وقتا مخصوصا وهو وقت تذكرها، بينما الصوم عبادة سنوية يخلو منها ١١ شهرا، فكان مقتضى القياس إيجاب القضاء على الحائض بعد رمضان في أيام أخر، يكون الوقت خاليا لقضائها، حتى لا يخلو العام من فريضة الصوم..