في البخاري: قال: ابن جريج، أخبرني عطاء: إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، قال: كيف يمنعهن؟ وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟ قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري، لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: ((لم يكن يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة من الرجال (أي: تحجز نفسها عنهم)، لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: «انطلقي عنك»، وأبت)).
فهذ الحديث أصل يدل على وجوب تجنب المرأة لمخالطة الرجال الممنوعة..
✏️ ويمكننا توضيح فقه هذا الموضوع عن طريق النقاط التالية:
(1) تحرم الخلوة (وجود المرأة مع الرجل في مكان مغلق لا يراه الناس وكل اجتماع بين رجل وامرأة يراه الناس فليس خلوة ومن ذلك ركوب التاكسي مثلا) وبالتالي لو معهما ثالث ولو رجلا آخر أو امرأة أخرى أو كان المكان من زجاج يطلع عليه الناس فليس خلوة، قال الإمام أحمد – رحمه الله -: وقد سأله المَرّوذِي عن الكحال (من يداوي العين بالكحل)يخلو بالمرأة وقد انصرف من عنده: هل هي منهي عنها ؟ قال : أليس هي على ظهر الطريق ؟ قيل : نعم، قال : إنما الخلوة في البيوت.”
(2) يحرم تعمد المس بين الرجل والمرأة كالمصافحة ونحوها، ويستثنى من ذلك المس بلا قصد. ولبعض الفقهاء مذاهب تبيح مصافحة المرأة الكبيرة أو الشيخ العجوز أو المصافحة بحائل عند أمن الفتنة، أما مصافحة الشاب للشابة بلا حائل فمجمع على تحريمها ولا يلتفت عندي للفتاوى الشاذة لبعض المعاصرين فيها.
(3) يحرم الكلام لغير حاجة، والحاجة كمصلحة دينية أو دنيوية أو مصلحة تستدعيها طبيعة العمل، ولا يحرم الكلام الدنيوي العارض كالسؤال عن الحال ونحوه طالما ليس بإسراف، وحديث السمر والدردشة بغير هدف= محرم، وكذلك الاسترسال في المزاح أما ما يأتي عفوا بلا استرسال فيعفى عنه.
✏️ الاختلاط الذي يخلو من كل ما مضى له ثلاث صور:
الأولى: اختلاط راتب متكرر في مكان محدود، مثلا: غرفة مكتب فيها أربعة أو ثلاثة (فيهم نساء)، وجودهم يوميا مع بعضهم ثابت ومتكرر مدة الدوام كاملة= وهذا الاختلاط عندي محرم، فهذه الصورة محرمة لأن فيها اجتماعا راتبا متكررا مع فرص شتى للاتصال على صورة تؤدي عادة لوقوع محرمات، والشريعة هنا لا تنظر لإمكان عدم وقوع المحرمات وإنما تنظر لوجود ظروف تزيد من احتمالات وقوعها، بالضبط كالنهي عن الذهاب لبلد ينتشر فيه مرض معين مع أن هناك احتمالات كثيرة للذهاب وعدم الإصابة بالمرض.
ويفتي بعض المعاصرين بأن هذه الدرجة من الاختلاط مكروهة ليست حراما، منهم الشيخ مصطفى العدوي فمن ضاق الأمر عليه وعرف من نفسه انضباطه بالشرع= وسعه تقليد الشيخ.
الثانية: مكان العمل لا يجتمع فيه الرجال مع النساء إلا بصورة عارضة لطبيعة العمل، أما الأصل فالمكاتب وأماكن التجمع منفصلة، كغرف المدرسين المفصولة عن المدرسات مثلا، مع اجتماع المدرسين مع المدرسات وتبادل الكلام عند الحاجة= هذا عندي مباح بلا إشكال، ومنه الأعمال التطوعية التي تراعي هذا.
الثالثة: وهي وأوضح في الإباحة وأظهر: الاختلاط العارض مثل المحاضرات الجماعية مع عدم التلامس أو مثل الاجتماعات العائلية أو الذهاب للمساجد وللأسواق، فهذا أكثر أنواع الاختلاط دخولا في الحلال والاحتياج الإنساني.
ومن أمثلته ما في الحديث الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بينما أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما، جالسان جاءهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما أجلسكما ههنا؟» قالا: والذي بعثك بالحق، ما أخرجنا من بيوتنا، إلا الجوع، قال: «والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره» ، فانطلقوا، حتى أتوا بيت رجل من الأنصار، فاستقبلتهم المرأة، فقال: لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أين فلان؟» ، قالت: ذهب يستعذب لنا من ماء، فجاء صاحبهم حاملا قربته، فقال: مرحبا، ما زار العباد شيء أفضل من شيء زارني اليوم.
والحمد لله وحده هو أعلى وأعلم.